الروح الاستعمارية لا تعترف بمكارم الأخلاق، التي لقّنها لها «عمانويل كانط»؛
والزهد، في منطقها، كما النزاهة، قيم البلهاء، لأنها لا تريد أن تحدّق في سيماء الحقيقة، التي تدعوها لأن تكفّر عن خطاياها، في حقّ أمّة الصحراء الكبرى، فتعيد لها سلطانها على هذه الصحراء، لتعود هذه الصحراء ذلك السدّ العازل، الخالد، الفاصل طبيعيّاً، بين شمال الصحراء الأمازيغي، وجنوبها الافريقي، بين الشريط العصيّ، الرومانسيّ، المجبول بالأشعار والأشجان، المغسول بالشموس، الواقع شمال نهر »كَوكَو»، وبين مستنقع الحضيض، المكسوّ بظلمات الأدغال، الغارق في الأوحال، الذي يتنفّس أجناس الرطوبات المريبة، التي تثقل كاهل الأبدان، كي تتحوّل وزراً يثقل بدن الأرض، وتبلبل فيه الروح، لتعتنق دين البلادة، فلا تكتفي، ولكنها تأبى إلّا أن تبتلي جسد المخلوق بوباءٍ لئيم، هو فاصلٌ طبيعيّ، بين بيئة الأنهار، وتخوم البحار، يستعير بعزلته، ترسيمةً مغتربة، ممهورةً بأوسمةٍ مختلفة، لينفي بسلطان حضوره كلا القطبين، الشمالي والجنوبي، ليحبك لنفسه استقلالاً ينزّهه عن غنيمة الطرفين المستكبرَين، ليٌحاجج بسطوة التخلّي، عندما تحرّر من ظلّ الشجر، ومن ترف النهر، ومن كل حرفٍ يستدرج إلى حضور؛ هذا الحضور الذي أُريدَ له أن يُنتدَب، ليكون برهاناً على استثناء، على كفاءة، على إعجاز، ما لبث أن استوى في ما صار شَرَكاً، يقتنص الأجيال، ليزجّ بها في دياجير السجون، باسم مهيب هو: الحضارة، فاحتكر خصال معبودٍ، اختلس بفضلها روح الإنسان، في عهد الرحيل، ليجرّده من الحلم، من الشعر، من الجمال، من اللحون، من الحكمة، من الحضور في فردوسٍ هو: الحرية، بدل الحضور في واقع حضارةٍ تحتضن بعبعاً هو: الدولة، التي لا تستحي من أن تتنكّر للنواميس الطبيعة، لتسنّ القوانين الوضعيّة، فتربّي في الناس روح العبوديّة.
ففي واقع هذا الشريط المهجور، المحصور بمياه جهات الدنيا الأربع، لم توجد الحاجة لعبور الحدود إلى عوالم المجهول، لأن كل قطب، في المعادلة الجغرافية، لاذ بتلابيب وطنٍ هو برزخ عازل لعالمين مختلفين، جنوبه مسكونٌ بأقوام الأدغال، وشماله، الهارب، يستجير بالجبال، المشرفة على الأحاضيض، المؤدية إلى البحر، وهي السلسلة التي صارت حداً مانعاً آخر، يفصل بين الصحراء والسواحل، التي كثيراً ما استضافت دخلاء، لم يكن ليهنأوا بالمقام في تلك الأرباع لولا جود أهل الصحراء، الذين أذنوا لهم مراراً بالاستقرار، المشروط بعدم التجديف في حقّ الحدود، باجتياز الجبال إلى نحو الجنوب، كما حدث مع دخيلين تاريخيين هما: الفينيقيون، الذين وضعوا حجر أساس قرطاجة، واليونانيون الذين وضعوا حجر أساس قورينا، ولم يحدث الصدام مع الليبيين في الدواخل بشهادة هيرودوت، إلّا عندما خرق الأضياف بنود الميثاق، بمحاولة الاستيلاء على المزيد، بالتوغّل في الداخل، فتصدّى لهم الجرمنتيون، وردّوهم على أعقابهم. والواقع أن حرمة هذه الحدود لم تدنَّس إلّا مرّتين في المراحل التالية، أوّلهما عند غزو الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للصحراء، ولكنه ظلّ محدوداً، بسبب تصدّي الملثّمين للغزاة؛ هذا في حين انقلب هذا التجديف تالياً طبيعةً في مسلك ما سمّي بالدولة الوطنية في عهود استقلالٍ مشئوم، لم يكتفِ بتشييد حبوس ما أسميناه بكيانٍ ملفّق هو «الدولة»، ولكنه أبَى إلّا أن يخون القيم التي تشدّق بها، ما أن استولى على السلطة، وهو إقامة «الدولة الطغيانيّة». هذا المسخ هو الذي مزّق أوصال الصحراء الكبرى إلى أشلاء، مازالت أمّة اللّثام تجني نزيفها السخيّ إلى اليوم، لأن التجربة برهنت أن محاولة التدخّل في ناموس الطبيعة، بتغيير واقعٍ مشفوعٍ بمشيئة هذه العرّابة الخالدة، هو خطيئة لا في حقّ هذه الكاهنة وحدها، ولكنّه عدوانٌ في حقّ الألوهة نفسها، وثمن التكفير عنه قصاصٌ يسري في تجربة الجيل، ليرثه الخلف عن السلف، في تقييم وجيع يبرهن كم الاستقلال أحياناً لعنةً، عندما يعتنق النظام البديل، الوطني حرفاً، الطغياني روحاً، دين وباء الزمان: الأيديولوجيا، الذي حاق بدول شمال القارّة وجنوبها، لتطويق الرقعة الوحيدة المحافظة على فطرة التكوين، وهي الصحراء الكبرى، فاستنزل هذا الوباء المميت في حقّها صنوف التنكيل، لتتحوّل أول ضحايا «الدولة الوطنيّة» الناشئة، التي زوّرتها اللوثة الأيديولوجية، فعملت على كتم أنفاس أهل الوطن البكر، الذي لم يتخيّل أهل الصحراء أن يتنكّر فيه ذوو القربى لأبسط القيم، لجهلهم بقدرة ورمٍ خبيث كالأيديولوجيا على تزييف النفس البشرية، على نحوٍ أفقد الناس وجود عدالةٍ في ظل أيّ نظامٍ سياسيّ، سيّما النظام السياسي «الاستقلالي»، الناتج عن انسحاب النظام الاستعماري الاستيطاني.
والواقع أن حدَس القوم لم يخذلهم إذا تعلّق الأمر بالعقليّة، التي تتغنّى بمزايا وجودهم في قمقم الدولة، لتطرح التجربة البرهان على عبثيّة انتظار خلاصٍ يمكن أن تحققه الدولة، مادام الغرض من الجدل هو سؤال الحرية، كأنّ الحضور في واقع المكان وحده فرمان تحضّرٍ، أمّا الحضور في الهجرة، الذي يعني الحضور في الحرية، فهو حضورٌ عدميّ، غير معترف به في عُرف الواقع، لأنه حضورٌ في حريّةٍ من جنسٍ خاصّ، حضورٌ في البُعد المفقود، أي حرية الأبعاد القصوى، التي لن تكون هنا سوى حرية المفهوم، الذي يعتنقه «كانط»، في تعريف المنيّة!
وها هي الدولة، المنبثقة من رحم الدّخيل الاستيطاني، تخسر الرهان في واقع الحزام الصحراوي، في صيغتها الوطنية، فلم تغترب العدالة في ممارستها وحسب، ولم تختنق الحرية في ربوعها وحسب، ولكنّها أقبلت بالبليّة التي لم تعرفها الصحراء في تاريخها كله، وهي: الطغيان!